كان بريت كيللي مفعمًا بالحيوية، لكنه لا يعرف ماذا يفعل بحياته التي تبدو على وشك الانهيار. لم يعد قادرًا على سد ديون البطاقات الائتمانية، رغم عمله كل يوم أكثر من 12 ساعةً، بالإضافة إلى اضطرار زوجته للعمل نادلةً في أحد مطاعم ولاية كاليفورنيا الأمريكية. الحصول على وظيفة في إحدى شركات التقنية لم يعد سهلًا، كما كان الحال في الماضي، ويبدو أن على بريت التنقل من وظيفة إلى أخرى براتبٍ قليل، رغبةً في دفع إيجار المنزل ورعاية أطفاله الصغار.
بجانب عمله غير المستقر، كان بريت خبيرًا استثنائيًّا في تطبيق «إيفرنوت»، وهو تطبيق يساعدك على تنظيم حياتك الشخصية والمهنية، وترتيب مواعيدك ومهامك بأفضل طريقة ممكنة، وعلى خلاف معظم مستخدمي التطبيق، كان بريت يعرف أسراره والاختصارات الموجودة به، بالإضافة إلى أفضل طريقة ممكنة لاستخدامه بشكل فعال.
قرر بريت أن يقوم بكتابة كتاب إلكتروني، يشرح فيه بالتفصيل كيفية استخدام تطبيق إيفرنوت، من البداية وحتى الاحتراف. العمل الذي كان من المتوقع أن يأخذ أسبوعين، استغرق فيه بريت ستة أشهر لإكمال ملف بصيغة بي دي إف، وصل إلى 90 صفحةً بها شرح تفصيلي، مدعم برسوم الجرافيك، لكل من يريد تعلم استخدام هذا التطبيق الهام. ومن خلال موقع إلكتروني بسيط، وبوابة للدفع متناسقة مع منصة باي بال، أطلق بريت نسخته الأولى على الإنترنت مقابل 60دولارًا أمريكيًّا.
ذهب بريت لينام هذه الليلة، على أمل أن تصله في الصباح طلبات معدودة لشراء كتابه الوليد، ويبدو أن الجهد الذي وضعه بريت لم يذهب هباءً، العشرات من مستخدمي الإنترنت ومن محبي التطبيق قرروا دفع 60 دولارًا للحصول على كتاب بريت. في حواره مع كريس كوليبيو، صرح بريت أن شركته متناهية الصغر تدر أرباحًا سنوية تصل إلى 160 ألف دولار أمريكي، من عوائد بيع هذا الكتاب، بالإضافة إلى أن شركة إيفرنوت أعجبت بما قام به بريت، وأصبح الآن أحد موظفيها الأكفاء، وله حق الاحتفاظ بكامل أرباح الكتاب لنفسه.
ما قام به بريت هو عملية متكاملة للأعمال، تبدأ من تأسيس منتج أو خدمة، مرورًا ببناء منصة البيع، ووصولًا إلى التسويق وتلقي الأموال من العملاء. قديمًا كانت هذه العملية تستغرق الكثير من الوقت والأموال، وكانت الشركات الكبرى فقط هي القادرة على إدارة هذه العمليات.
تخيل إحدى الجرائد المشهورة في بلدك، وطريقة إصدارها وبيعها منذ عشر سنوات. مبنى ضخم يعمل به عددٌ كبيرٌ من الصحافيين والمنتجين والمدققين. بعد ذلك تنتقل الصحيفة لتطبع في مطبعة بها عدد كبير من الأجهزة، التي تكلف مئات الآلاف من الدولارات، ويعمل بها عشرات العمال. ثم سيارات بسائقيها لنقل الجريدة إلى منافذ التوزيع. وأخيرًا العاملون بمنافذ التوزيع ومهام التعامل مع العملاء وبيع الصحفية.
كل هذه العملية قام بها بريت من خلال حاسوبه الشخصي بشكل مختلف، لا يحتاج بريت إلى مطبعة لأن القراء سيطلعون على الكتاب إلكترونيًّا. التسويق سيتم من خلال منصات التواصل الاجتماعي، والدفع من خلال البطاقات الائتمانية، وكل هذا يمكن إدارته من المنزل، من خلال عدة تطبيقات موجودة على الهاتف الذكي.
هذا هو النموذج الجديد للمشاريع متناهية الصغر أو Micro Business، حيث يمكن لشخص واحد إدارة عملية متكاملة للأعمال، تبدأ من تطوير المنتج أو الخدمة، وصولًا إلى تلقي الأموال من العملاء، وتقول التقديرات إن أكثر من 50 مليون شخص، في أمريكا وحدها، لديهم علاقة ما بالمشاريع متناهية الصغر، إما أنهم رواد أعمال قرروا البدء في بناء مشاريع متناهية الصغر، أو موظفون يعملون بشكل غير دائم في أحد هذه المشاريع، وتطور الإنترنت ومفهوم الأعمال جعل
من المستحيل ممكنًا، وأصبح بإمكان أي شخص من خلال خبرة قليلة البدء في تأسيس عمل خاص به.
يظن كثير من الناس أن المشاريع متناهية الصغر تنحصر فقط في المجال التقني، مثل البرمجة، وتطوير التطبيقات، والتصميم، وهذا ليس صحيحًا على الإطلاق. الحقيقة أن معظم المشاريع المتناهية الصغر حول العالم لا تمت للمجال التقني بصلة، مثل المطاعم، ومتاجر بيع المنتجات المحلية على سبيل المثال، وقد تستخدم هذه المشاريع التقنية لتسهيل عملياتها، لكنها لا تعتمد عليها بشكل كامل كوسيلة للربح.
التعليم من خلال الإنترنت أحد الأمثلة المشهورة للمشاريع متناهية الصغر، حيث يقوم شخص ببناء موقع إلكتروني، أو استخدام إحدى المنصات الوسيطة لتعليم أشخاص آخرين مهارة أو علم معين، مقابل مبلغ من المال، وأشهر مواضيع هذه المنصات هي تعليم اللغة والرياضيات والموسيقى من خلال الإنترنت.
المصنوعات المنزلية ابتداءً من الحلوى، ووصولًا إلى المنحوتات والقطع الخشبية، هي إحدى الأمثلة غير التقنية المعروفة في مجال المشاريع متناهية الصغر، البيع من خلال الإنترنت جعل بإمكان الجميع شحن بضائعهم إلى أي مكان في العالم، وتسويق المنتجات إلى كل دول العالم، باستخدام المواقع الإلكترونية، وصفحات التواصل الاجتماعي.
الأمر بسيط للغاية، ربما تشرح لك كتب الأعمال مئات الخطوات لإنشاء شركة، لكن يمكن اختصار كل هذا في ثلاث خطوات رئيسية.
الأولى أنه عليك البحث عما يحتاجه الناس، يمكنك سؤال أصدقائك عن الخدمة أو المنتج الذي يحتاجونه في حياتهم، ومستعدين للدفع مقابل الحصول عليه، والثانية أنه عليك تطوير منتج أو خدمة تتوافق مع شغفك وخبراتك الشخصية، والثالثة: عليك إيجاد طريقة لإيصال المنتج أو الخدمة إلى العملاء، والحصول على مستحقاتك. هذه العملية البسيطة هي السبب وراء نجاح الآلاف من أصحاب المشاريع متناهية الصغر حول العالم. قد يبدو هذا الأمر البسيط سهلًا، لكنه يحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت، حتى تستطيع إيجاد الحاجة المناسبة لدى العملاء، والبدء في تقديم خدماتك.
هناك نموذجان رئيسيان للمشاريع متناهية الصغر. الأول هو أن تقوم بإنشاء خدمة ثابتة وبيعها للعملاء بسعر ثابت، وهذا النموذج يتطلب الكثير من الوقت والجهد في البداية لتطوير الخدمة، لكنك ستتمتع بعد ذلك بأرباح متتالية، دون الحاجة إلى التعامل المباشر مع كل عميل لتصميم خدمة خاصة به، وما قام به بريت يعد مثالًا جيدًا لهذا النموذج، حيث قام بالعمل لمدة ستة أشهر على كتابة مذكرة الشرح، وليس مطلوب منه بعد ذلك سوى تلقي الأرباح من العملاء، دون الحاجة إلى بذل أي جهد آخر، بخلاف ربما تطوير المذكرة وإصدار نسخ محسنة منها.
النموذج الثاني هو تقديم خدمات شخصية للعملاء، مثل خدمات الكتابة الإبداعية على سبيل المثال، لا يتطلب هذا النموذج الكثير من الوقت في البداية، ولكنه يتطلب تواجدك بشكل شخصي طوال الوقت للتعامل مع طلبات العملاء، إذا كنت تبيع مصنوعات محلية على موقعك الإلكتروني، فسيكون عليك استقبال الطلبات يوميًّا وتحضيرها، ثم إرسالها إلى العملاء، والتأكد من وصولها إلى كل عميل في الوقت المناسب. وبغض النظر عن النموذج الذي يناسب طبيعة ما تقوم به، يمكنك على الأقل المحاولة، ربما تصبح قريبًا واحدًا من أصحاب المشاريع متناهية الصغر.